عناوين بوكس
قراءة، هشام شمسان
▦ مهـاد الـروايـة :
ثمة علاقة وطيدة، ووثيقة، بين الأدب، والحرب؛ حيث تظل الحروب الأهلية، والقومية مصدراً من مصادر الإلهام للكتاب، والأدباء، وتلعب دوراً فاعلاً في إذكاء نزعة الكتابة؛ كونها ترتبط ارتباطاً مباشراً بالإنسان، ولها تأثيرها الفاعل على مختلف جوانب الحياة: سياسيا، واقتصادياّ، واجتماعياً، بل وثقافياّ أيضاً؛ وهذا الارتباط العميق بين الأدب، والحرب هو مايحرك مشاعر الأديب، وانفعالاته؛ جراء تأثره النفسي بأجواء وتأثيرات الحروب، التي تعد انعكاسًا فعلياً للسياسة البشرية التي تدار بطرق عشوائية، وغير متوازنة، ولاحكمة فيها، ثم ما تخلفه النتائج جراء تلك السياسات من شتات، وخراب للبنية العمرانية، والاقتصادية المنعكسة سلباً على الإنسان .
وقد كان الأدب، ومنه الرواية في العصور السابقة يقوم دورها على تمجيد الشخصيات الحربية، وقادتها، وزعمائها، وتقف إلى جانب فئات معينة لمناصرتها، ويكشف دوراً تحريضياً : يمجد، ويحمس، ويعظم، ويستنهض الروح المعنوية لهذه الفئة، أوتلك؛ مبرزاً الأدوار النضالية، للقادة والزعماء ، كما في روايات أساطير التمجيد .
لكن، ومنذ الحرب العالمية الأولى والثانية وحتى عصرنا الحديث، دخلت الرواية عهداً جديداً، حيث برز جيل من كتاب الرواية ينظر إلى الحرب كلّ من زاويته الخاصة؛ حيث تغير الدور، والطريقة التي يتم بها تناول موضوعة الحرب من التمجيد إلى مناهضة الحرب، ورفضها؛ حيث أدرك الأديب أن الحرب تعني الخسارات، والكوارث، والدمار، والشتات، وهذا يتنافى مع مفهوم حب الحياة ..
رواية "رحلة مليون شلن، خمسين دولاراً" للكاتبة اليمنية، المقيمة في فرنسا ليلى السياغي- والصادرة ضمن منشورات " عناوين بوكس" في القاهرة - هي إحدى تلك الروايات المناهضة للحرب، وتكشف عن طبيعة الحروب الكارثية التي تدمر الحياة، وتتسبب في تغييب دور الإنسان، وتدمير بنيته الإنسانية، والقيمية، والروحية، والإنتاجية، والعملية؛ إذْ تستحضر من خلالها الكاتبة مناخات إنسانية مرعبة من القهر، والظلم، والشتات، والتشرد، والمعاناة، والتسلط، والموت المجاني بين أجنحة الأمواج؛ فتنقلنا الساردة بشخصية "رحمة" إلى مشاهد- تهز المشاعر- من الاستغلال الجنسي، والاغتصاب، وبيع الأجساد، مقابل بعض الشلنات، وصور من استغلال الحاجة والفقر، والمتاجرة بآدمية الإنسان، وبيعه، وإجباره على ممارسة مالا يرغب .
وتتعمق في مشاهد إعلاء الشهوات الأيروسية المضطرمة على قيم الدين، والإنسانية، والأخلاق.
وفي الرواية يختلط الدين، والتدين بالشهوة، وغريزة الجنس؛ فيكاد القارئ لا يفرق بين الشيخ، والعاهر، وبين المصلي، والمعربد، وبين الداعية، والقواد، وبين السجادة، وسرير الرذيلة، وبين شهقة الألم، وشهقة اللذة الحميمية .
▦ الـفكـرة: الموضوع، والملامح :
تقوم فكرة الرواية على شخصية محورية رئيسية هي "رحمة" التي تُدمّر قريتها الواقعة في ضواحي "مقديشو" وتفقد أسرتها؛ لتجد نفسها في مخيم "يلتقي فيه الفارون من كل أنحاء البلاد، والوسطاء والتجار والمرتزقة والمُهرِّبون والسماسرة الذين يديرون نُزُل ومراكز التهريب وينتشرون في الخيام حيث المال والنساء العازبات وصغار السن...."
ومن هناك تبدأ قصتها التي ارتبطت بلعنة، وتعويذة عينيها الزقاوين اللتين استرقتا حياتها منذ أن "بدأت تشعر بالبلل بين فخذيها.. " لتبدأ معها رحلة المليون شلن/ خمسين دولاراً .
إنها رحلة الخسارات المتتالية التي بدأت باغتصاب براءتها، ثم بيعها، وركوبها البحر، مع المهربين، ثم استقرارها في مخيم "خـرز" للاجئين في اليمن، ثم ترحيلها بحيلة خداعية مع مجموعة فتيات إلى منطقة "البساتين" في عدن ، للعمل مقابل خمسين دولاراً.. " :
" منطقة "البساتين" "..تضم بلوكات الأغنياء المولدين الذين هاجروا في بدايات الحرب أو قبلها، واستوطنوا أرضاً جرداء في الطرف الشمالي لمدينة عدن، وبنوا لهم فيها بيوتاً منظمة تشبه بيوتهم التي كانت في الصومال .."
ومع استقرارها في منزل شيخ يدعي الصلاح، والتقوى، تبدأ "رحمة" مرحلة الاستغلال الجسدي، والنفسي الثانية :
" تقدم من وجهها المكسو بالرعب والدموع... يتحسس فخذيّها وزهرة صدرها.. انقض على شفتيها.. فارق بين ساقيه، لتصطدم عينيها بقضيبه المتضخم..حاولت الإفلات من يده، قاومته بشدة، لكنه هرس جسدها الصغير في قبضته بلا رحمة...استمر في نشوته حتى أفرغها..." .
"سقط القناع وانقشعت عنها الغشاوة. تشظى الشيخ في عينيها. انكسر الإكبار والتقديس. كان يرتدي ثياب الخالدين فتعرى إلا من شهوة.." ..
تفر هاربة لتلتقفها يد امرأة عجوز تمتهن الدعارة، وتبيع أجساد النساء لمن يرغب، ويدفع.. أدركت أنه قدرها :
- "لماذا لا أكون مثلهم..؟"
- "لماذا لا أشبع رغبتي المتأججة، وأكسب ما أحتاجه من مال.."
" تثور في نفسها الرغبة بالانسلاخ عن ذاتها، والذوبان في شخصية أخرى"
"فتحت الطريق؛ ليلجها المشترون بسهولة: فتحت ما بين فخذيها؛ ليدر عليها الأموال..
فاقت شهرتها البساتين إلى مدينة عدن، وطلبها أحد ضباط الأمن للمبيت معه، كان سادي الرغبة، والتكوين، فعذبها قبل اغتصابها.. غادرته منكسرة، باكية، فأرسل عساكره للقبض عليها.
وهنا تدخل" رحمة" مرحلة جديدة من الهروب، والفرار، فينتهي بها المطاف إلى منطقة "الشيخ عثمان"، حيث تلتقي بحبيب طفولتها " آر" الذي يقترح تهريبها إلى صنعاء، والبقاء بجانبها ..
فهل داوتها صنعاء، ولملمت أحزانها، واستطاعت أن تشكل ملامح السعادة التي فقدتها في رحلة شقائها، وجوعها، وبؤسها، وامتهان جسدها الغض، أم أن " لعنة الخمسين دولاراً ظللت رفيقة دربها، وكأنها مصابة بها، وبعينيها الزرقاوين ..؟"
▦ العـنوان وإنتاج الـدلالـة :
"خمسون دولارًا، مليون شلن" عنوان يبدو لأول وهلة جامداّ، ومفرغاً من الدلالة، والإيحاء، لخلوه من التركيب البلاغي للصورة المقروءة، ومن شعرية التركيب التي نجدها في كثير من الروايات؛ حيث يختار الراوي-عادة- عنواناً لافتاً، وجاذباً، ومشوقاً، ودافعاً إلى اقتناء الكتاب، وقراءته.
"خمسون دولارا، مليون شلن" عنوان لا يأبه لمسوغات الجذب والتسويق القرائي،
ولكن حين يلج القارئ إلى متن النص الروائي سيكتشف كم هو دلالي، وكم هو إيحائي، وكم هو رمزي.. وارتباطه بهذه المفاهيم يتأتى من تعالقه الوثيق بمجمل أحداث الرواية، وأنساقها، وسردها التتابعي: الزمني، والمكاني .
وعليه، فإن هذا العنوان يتحول في السياق الروائي إلى ملفوظ انزياحي غني بالإيحاء، والمعلوماتية، والرمزية؛ إذْ نجده يتكرر مع كل حكاية ارتحال، وهروب تخوضها الشخصية الروائية " رحمة"، ويرتبط هذا السياق العِنوناني إيحائياً بالاستغلال الجنسي، والإذلال، والقهر، واستباحة الجسد، والمتاجرة بـه .
ويحمل الشق الأول من العنوان رمزية مكانية يشار بها إلى البلد الذي تنتمي إليه الشخصية الروائية ( العملة الرسمية للصومال)، والشق الثاني يشار به إلى المعادل الصِرافيّ للمليون، في مفهوم التعاملات النقدية، والذي يساوي خمسين دولاراً. كما يحمل إشارة ضمنية إلى المكان الجديد الذي استقرت فيه بطلة الرواية (اليمن). ومع كون الدولار ليس هو العملة الرسمية لبلد الإقامة( اليمن) لكن فيه إيماء إلى من يتعامل به، وهم فئة الأغنياء، والمتسلطين، والمتاجرين بأقوات البشر ، وآدميتهم؛ بدليل أن لفظ الريال يتجلى مع ظهور الشخصية الروائية، وهي في حالة تسول: " قابضةً بإحدى يديها على مئة ريال متهالكة "؛ حيث سنلحظ بأن مدلول "متهالكة" يتساوى في رمزيته اللفظية مع تهالك البلد، وتهالك البشر، وتهالك العملة ( مادياً، ومعنوياً) .
▦ فضاء الزمان، والمكان(*)
تعد بنية الزمان في العمل الروائي هي القوة الرئيسية التي تدور بقية العناصر الحكائية، ومتوالياتها السردية في إطاره، فتظهر آثاره جلية حتى على سمات، وملامح الشخوص، ومجمل سلوكياتهم، وطبائعهم.. ويأتي المكان ملحقاً بالزمان، ويسير في نفس خطيته، أو مساراته، ولا قيمة للمكان إن لم يسر في خطية الزمان. ولذا يصعب الفصل بين "الزمكان" لتداخلهما، وتواشجهما خطياً، وقطعياً ..
وفي منطقية الحكاء لابد أن يأتي الزمان تصاعدياً. لكن هذا لا يعني ألا يبدأ الزمان من اللحظة الحاضرة، ثم ينقطع؛ ليبدأ من الماضي الاستدعائي تصاعدياً نحو الحاضر، كما في رواية "ليلى السياغي" التي رأينا كيف بدأ الزمان السردي من لحظة حاضرة، قد تبدو مبهمة، ثم يحدث انقطاع تام للبنية الزمنية في الفصل التالي، لنجد زمناً بعيداً يمتد بماضيه إلى التسعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي اشتعلت فيها الحرب الأهلية في الصومال، مروراً بالفترة التي سيطرت فيه اتحاد المحاكم الإسلامية على مقديشو (2006)، وتأسيس حركة الشباب المجاهدين لاحقاً ..
وبالتنقل المكاني من "مقديشو" إلى عدن، إلى صنعاء، تتصاعد بنية الزمان خطياًّ إلى الفترة التي سميت بالربيع العربي في اليمن، والمناداة بالانقلاب على الحكم في صنعاء.
ومن المفارقة أن تبدأ الرواية بزمن الحرب في "مقديشو" وتنتهي بزمن تتهيأ فيه "صنعاء" إلى كارثية الحرب..
ليس هذا فحسب، فالساردة لم تغلق أحداث روايتها عند هذه الفترة، وأبقت النهاية مفتوحة نحو المستقبل الكارثي للحرب في اليمن بزمانها، ومكانها الآني، تَمثّل بلحظة لقائها العابر بشخصية روايتها "رحمة".
إن العمل الروائي قد لايبوح-عادة- بأرقام، وفترات، وأعوام زمنية، وإنما يُستدل بها من خلال أفعال الشخصيات، وسلوكياتها، وطبائعها، وملامحها، ومواصفات المكان الذي تعيش فيه، ولهذا فقد تعرفنا على اللحظة الزمنية الآنية الحاضرة من خلال ملامح شخصية الرواية :
"رأيتُ يديها السمراوين، قابضةً بإحداهما على مئة ريال متهالكة. عروقها نافرة، وضعيفة جداً. جسدها الجالس بقربي هزيل كأنه هيكل من عظم مغطى بجلد!. رفعتْ رأسها فصدمتني زرقة عينيها؛ كأنهما بحر في يوم غائم ..."
إنها ملامح امرأة عبث بها الزمان، والمكان، وفقدت جمالها، وشبابها، وعمرها الفتي، ولم تعد تملك من جسدها، وجمالها إلا العينين الزرقاوين (تعويذة شقائها) .
▦ فجوة فنية :
للحكاء بوجه عام صيغتان رؤيويتان :
- السرد الموضوعي( صيغة الراوي) ، وهو الذي يسيطر على مجمل العمل الروائي ويدير حركة الشخوص، وأفعالهم، وحواراتهم، وسلوكياتهم، ويصف مشاعرهم، وانفعالاتهم الداخلية .
- السرد الذاتي وله صيغة واحدة ممثلة
بــ(ضمير المتكلم ) .
استعملت الكاتبة كلا الصيغتين ، فبدأت الفصل الأول بالضمير الذاتي، وبدت الساردة الحكاء، وكأنها الشخصية الرئيسية، ثم في الفصل التالي تنقطع بالزمان والمكان، لنشاهد شخصية متكلمة بنفس الضمير في الفصل التالي (شخصية رحمة)، وأخذت زمن فصلين فحسب.. فجأة يختفي ضمير السرد الذاتي للشخصية الروائية، ويُنزع عنها إرادة الحكي، ويتجلى السارد الموضوعي بصيغة الراوي العالم؛ ليتحكم بما تبقى من الفصول الـ(31)، حيث أزيحت الشخصية المحورية من مركز الحكاء الذاتي، إلى ضمير الغياب فجأة، والتحكم بمجمل الحكاء من الخارج (الـراوي الموضوعي) .
وكان الأولى أن يأخذ الحكاء صيغته الذاتية (بضمير الأنا) بدءً من الفصل الثاني، وحتى النهاية، أو يأخذ السرد صيغة الراوي العالم، ابتداءً وانتهاءً، وتحوير الحكاء بما تقتضيه عناصر السرد ومكونات الحَـبْك، والتختيم ..
▦ بطاقـة الروايـة :
تعد رواية "رحلة مليون شلن/ خمسين دولاراً " أول عمل روائي للكاتبة اليمنية- المقيمة حاليأً في فرنسا- ليلى السياغي، وصدرت مؤخراً عن دار عناوين بوكس، في القاهرة بطبعتها الأولى 2022، وتقع في (246) صفحة، وتتألف من (31) فصلاً ، بنظام الترقيمات، لا العنونات .
يشار إلى أن "ليلى السياغي" حصلت على جائزة رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب 2006 على مستوى محافظة صنعاء، وأمانة العاصمة، في مجال القصة القصيرة .
°°°°°°°°°°°°°°
(*) نجد بعض النقاد (للأسف) لا يفرق بين مفهوم "الزمان"، و"الزمن" في الرواية؛ فيجعلهما شيئاً واحداً، أو هما بنفس المعنى .
- الزمان : هو الفترة، أوالمدة المقاسة من (الزمن)، ولنا القدرة على استيعابها، وتحديدها، واستشعارها بساعاتها،أو أيامها، أوشهورها، أوسنواتها، فنقول مثلاً : "ولدت في عام حصار السبعين"
- أما الزمن ، فهو خارج القياس، والاستشعار؛ لوجوده معنا، وحولنا منذ أن خلق الله الكون، وإحساسنا به نسبي، ولامحددات معيارية تقودنا لقياسه:
• "مرت فترة دون أن يلتقيا ... (زمن )
• "مرت سنتان دون أن يلتقيا".. (زمان)
فالزمان جزئية في الزمن، ويقع في مجاله، وملكوته .
Comments