عناوين بوكس
كتب ، هشام شمسان:
لعل ما يلفت الناقد، والمتلقي -على السواء- في هذه المجموعة القصصية، للمبدعة "هدى العباسي" هو تمكن الكاتبة من الإمساك بزمام، وناصية القصة القصيرة، والتعامل مع معطياتها، ومنجزاتها الجمالية، على نحو متقدم، يـَشي بكاتبة ملهمة، تمتلك مهارات الترويض لهذا الفن الساحر، والممتع، والمراوغ، واللاذع، والناقد؛ فشكلت مجموعتها الأولى- الصادرة عن دار" عناوين بوكس" إضمامة تجديد، وابتكار؛ بحيث تلتقط في نصوصها المواقف، والإشارات، ولحظات الواقع، وتصنع منها عوالم لأحلامها، وأوهامها، وهواجسها، وحزنها، وما تنفثه الحياة من تأزمات نفسية، وقلق فلسفي، يثير الخيال فينطلق من خلال صور حكائية، وسردية، وهذا، كله، لا يتأتى إلا باستيعاب بنائيات هذا الفن الجميل؛ لكتابة حدث نصي، بفكرة ملتقطة من أحوال الحياة، ولحظاتها، ومراياها، وشواردها، وتحويلها إلى انفتاحات تشكل العوالم الحلمية، الذاتية للناص ..
• تتحرك "الثيمات" الحكائية، في مجموعة " شاسعة القلق"، وفق مهيمنات تركز في مجملها على قيم الحب، والحرية، وأخطاء العادات والتقاليد المتعلقة بالأنثى، وخطر مواقع التواصل الاجتماعي كابتزاز الشباب للفتيات..
إلى جانب مواضيع اتسم طرحها بالعائلية، والأسرية، والوطنية.
وأخذت موضوعة التأزم : كالأحلام، والذكريات، والتداعيات النفسية، والعزلة، والفراغ، والشتات الداخلي، والقلق، والضياع حيزاً مناسباً من مجموع القصص .
• مما يجدر الإشارة إليه أن الكاتبة في بعض قصصها؛ لا سيما في موضوعة الحب، والعاطفة، بدت متأثرة ببيئة الأدب الغربي، على نحو مبالغ فيه، كما في :" ذاكرة مثقوبة، و"خريف سانت لورانس"، و"أرض اليباب" حتى أن أسماء شخوص هذه القصص هم أعاجم أيضاً.
ولعل هذا التأثـر، ناتج عن قراءات الكاتبة- كما يبدو لأدب كُتاب عالميين - إلى جانب أن اشتغالها بالترجمة، انعكس- أيضاً، كما يبدو- على كتاباتها القصصية، وهذا يستوجب الانتباه له مستقبلاً. فالعمل اﻹبداعي لا يجب أن ينتهي عند حدود قناعة صاحبه -فحسب؛ لأننا بذلك نكون قد تجاهلنا أهم ركيزة تفاعلية، وهي شريحة المستقبِل، الذي يوجه العمل إليه بدرجة أولى، ومن أجله يكون المنجز، فإن وافق العمل بيئته المحلية ، وإسقاطاته الفكرية، والثقافية، واستجاباته الوجدانية ، نال قناعته، واستحق العمل اﻹبداعي البروز ؛ليضحى فيما بعد، له قيمته، وأثره الواقعي الحقيقي، وإن لم يكن ثمة أرضية مشتركة بين العمل اﻹبداعي وبيئة التلقي، فإن العمل- مهما كانت قيمته الشكلية، أوالتعبيرية، يموت بمجرد الانتهاء من تأمله، أو قراءته .ليضحى- بعدئذ- من مهملات ،ومخلفات التاريخ..
• من المؤثرات الإيجابية التي انعكست على كتابات هدى العباسي نص عنوانه" رسائل إلى صاحب الظل الخفي" وهو نص مكون من أربع رسائل ، وهذا العنوان متناصص مع عنوان رواية عالمية عنوانها "صاحب الظل الطويل" للكاتبة الأمريكية" جين ويبستر" ، وهي رواية رسائلية، كانت تكتبها فتاة تعيش في ملجأ اسمها " جين أبوت" لرجل لاتعرف اسمه، ولا تعرف عنه شيئاً ولم تر منه سوى ظله فحسب، ولمرة واحدة .
° الفرق الموضوعي بين رسائل "جين" ، ورسائل شخصية " هدى" أن الأولى انتهى بها الأمر إلى الزواج ممن أحبت، لكن شخصية "هدى" انتهى بها الأمر إلى الفراق ممن أحبت..
• من المهم- هنا- أن نَستجْليَ تقنية فنية وجمالية، استطاعت الكاتبة أن توظفها باستيعابية كبيرة، فأعطت لكثير من نصوصها الحيوية، والتفاعل، والانجذاب، تلك هي تقنية " القفلة"، أوالخاتمة التي كان ينتهي بها النص من خلال جملة أو عبارة ما.
فكما نعلم بأن أجمل القصص القصيرة الحديثة، والجديدة منها تحديداً، هي تلك التي تنتهي بـ"قفلة"، أو تختيم غير متوقع، ومباغت، يغير من توقعات القارئ التخمينية التي تصاحب القراءة؛ فيكتشف- نهاية القصة- تخييباّ لتلك التوقعات على نحو يدهشه، ويسحره، ويجعله يعيد حساباته التوقعاتية؛ إذ يتحول بها النص إلى النهاية المفتوحة التأويل في كثير من الأحايين .
فالخاتمة المباغتة للمتلقي تمنعه من الوقوع، والسقوط في فـج الرتابة، والملل، والروتين، الذي تعود عليه، وألـِفَه في القصص المغلقة التي تنتهي بنهايات اعتيادية تتماشى مع تخميناته؛ فتعطي دلالات باهتة للنص المقروء..
ولنأخذ هذا النص كمثال :
(سجين اللذة)
«في كل مرة تستثار فيها خلجاته، يخرج سلاحه من مخبئه، وبطريقة جنونية، يطلق سائله على كل تلك القطع البيضاء المستفزة فتشتعل، منتشيا . تتحول عيناه إلى مرايا لا تعكس شيئا سوى شعاع ذلك الوهج الهائل، بينما كان يقلبها بين كفيه، راحت ترجف سريرته رغم دفء المكان!
الغريب أنه يراقبها بمتعة مريبة، وهي تشويه مثل خروف مكتوف الأربع، مطوقة أعماقه بما في ذلك، معيقة لحركة جسده، إثر ذلك اللهب.
المصيبة ألّا أحد يتمكن من اشتمام رائحة جسده المحترق سواه، فمن ينقذه؟ ومن ذا الذي يجرؤ أن يتهم بريئا، يكبله بالأصفاد بلا رحمة وبدون حجة سواها؟ من قال بأنها دوما المتنفس الوحيد حين يشتد بنا الاختناق وتغص الحناجر ؟ فهي لا ترخي أصابعها الملتفة حول رقابنا مثل أفعى، حتى أنه يقول بأنها شيء أشبه بنقمة، لكنها تتحول إلى نعمة عندما يتخلص من وبالها مرة، وأخرى يمد يده لها لتنتشله من شر ما علق فيه، وحينما تشبث بها هوت به، فعصفت به الرياح، قلبته مثل ريش.
تحسس جيبه ولكنه لم يجده هذه المرة؛ شلت حركته تماما، شحب وجهه وما استطاع الإفلات، ليوقفه ارتطام عنيف بالأرض ...»
.......
ابتداءً من عنوان النص المراوغ، ثم التسلسل بالقراءة تشعر وكأنك أمام وصف سردي ذات مغزىً جنسي محض: "يخرج سلاحه من مخبئه، وبطريقة جنونية، يطلق سائله على كل تلك القطع البيضاء المستفزة فتشتعل، منتشيًا .."
ولهذا فأنت تنساق وراء هذا المعنى الدلالي، وتشعر أنك تعرف موضوعة النص، وتطمئن لهذه المعرفة، أو تترك نفسك مع النص أملاً في حل لغزه، ثم تصطدم بالقفلة التي تخرجك من توقعاتك، وتزيل عنك غبش المعنى؛ فتعطيك الدلالة وهي أن القصة كلها تدور حول القلم، والكتابة، التي لايستطيع الاستغناء عنها، وحين لم يجده في جيبه، سقط مغشياً عليه..
سنرى أن الخاتمة جمعت مابين التأويل المفتوح، والمباغتة الدلالية (*)..
وفي القصة نلحظ تصويراً دقيقاً للتعالق، والتوحد الكبير بين الكاتب، والكتابة، التي لايحيا، ولاتتسامى ذاتيته إلا بها، فإن فارقته لسبب ما، ارتهن للشقاء، والتعاسة، والبؤس، وفارق الحياة معنوياً.
وقد اعتمد النص على رمزية القلم الذي يشير إلى دلالة الكتابة، وأُعطِيَ العنوان دلالة "آيروسية" تشبيهية بحالة الكاتب عند الكتابة، وهو يحلق في عوالم الجمال، والانتشاء؛ واللذة، منعزلاً بنفسه، وهو يشكل، ويرسم عوالمه الخاصة، بقلمه.
•• مجموعة "شاسعة القلق" القصصية، تعد باكورة أعمال الكاتبة اليمنية هدى محمد العباسي، الصادرة حديثاً عن دار "عناوين بوكس" بـ(96) صفحة، وضمت (36) نصاً قصصياً قصيراً ..
واهدتها الكاتبة " إلى الضائعين في متاهات الحياة، المحترقة أحلامهم في واقع مرير ولكل من يجد نفسه بين طيات الصفحات وثنايا السطور.." (الإهداء) .
• وقد اتخذت الكاتبة من العنونة( شاسعة القلق) استراتيجية عامة، تعبر بها عن مضمون المجموعة كلها، ولم يكن عنواناً فرعياً، جزئياً مأخوذاً عن أحد نصوصها الداخلية، كما يفعل الكثير من كتاب القصة، وبدا عنواناً شعرياّ مكتنزاً بالإيحاء، أكثر من كونه عنواناً قصصياً تعبيرياً عاماً .
(* ) النصوص الحديثة، والجديدة للقصة القصيرة، والقصيرة جدا، ذات النهايات المفتوحة، والقفلة المباغتة، بحاجة لقارئ متمرس، ولديه ذائقة سليمة للكشف عن قيمة ودلالة النص المقرو، ولا يمكن للقارىء العادي أن يدلف إلى معطيات النصوص التفسيرية، إلا بكثير من الصبر، والتأني، وإعادة القراءة في كثير من الأحيان.
تعليقات