عناوين بوكس/كتب، هشام شمسان:
يتواصل الشاعر "زيد عبد الباري سفيان" مع تجربته الشعرية، التي يحاول من خلالها تأسيس عالمه الخاص في مجال كتابة الشعر الحر، (قصيدة النثر).
وفي هذا الاتجاه الإبداعي صدر له حديثاً عن دار" عناوين بوكس" ديوان" نقرات على صدر الأبد"، ويعد هذا الكتاب الإصدار الثالث شعرياً .
تضم المجموعة أكثر من ( 80 ) نصاً شعرياً، وتألف من ( 102) صفحة، وتنتمي جميع نصوص الديوان إلى البنية الشعرية الحديثة، المتمثلة في القصيدة الدلالية ( قصيدة النثر) التي تستخدم النثر لغايات شعرية محضة، وتعد، في أسلوبها، وخصائصها، إحدى نتاجات التحديث، والتجاوز، والتجريب، والمتكئـة جمالياً، وفنياً على عناصر عامة، اتفق عليها معظم النقاد، وتتمثل بـ (الكثافة، والإيجاز)، و(التوهج، والإشراق)، و(اللازمنية (1).
ويعد الرمز - في هذا النمط الشعري الحديث- بنية أساسية، بل ويتقدم تلك العناصر ، ولا يتوهج النص الحديث إلا به (2)، ومن تلك الرموز، "الرمز الطبيعي" :
".................
"الماء مثل الريح ينفخ الحياة
في الخمس الجهات.
والنهايات
موت شاهق
غير أنّ الوفاة من غير لون
............."
لنتأمل في "موتيفتي" الريح، والماء وكيف تحولتا من مجرد دلالتين في سياق التركيب الجمالي، إلى محمولين رمزيين، إيمائيين ؛
فالماء- بيانياً- شُبه بالريح (تركيب تشبيهي مُجمل)، ثم أُعطيَ الماء معنى الحياة، فتحول إلى رمز إيمائي بشار به إلى (ماء الرجل) الذي يَنْفخُ الحياةَ خَلْقاً في أرحام النساء ، وتشبيهه بالرياح يأتي برمزية القوة في تتالي الدفقات.
وجعل الشاعر الجهات خمساً، ولم يقل( في الأربع جهات) بقصد التعميم للحياة التي تشمل حتى الوسط، مع احتمالية التأويل بأن تكون الجهة الخامسة رمزاً شعرياً لـ(الذات)، لأنها تقع في الصدر .
علماً أن رمزية "الما" وردت في عشرة مواضع تقريباً ( مُعرّفة ومنكرة) مثل :
• " تحتضنين الرمل بجزع بالغ/ وتلعقين الماء بشبق رهيف.."
• " في السفرة البائسة ناحية البحر/ علق نعل الماء في البرية.."
• " يخرجه عن سياق الماء/ يترك ردفي الوحشة تائهة/ في العراء.."
• " وقبل ان يرقش الماء رعشته/ على جمر الجسد ...."
•"..ماتت الوردة/ لتشرح لك أنّ الحبّ ماء.."
• " لهيب الماء..(عنوان نص) .
ونلحظ بأن الرمزية الجنسية للماء طغت تاويلياً على بقية الرموز في هذه الثيمة السيميائية ..
أما رمزية الريح (معرفة، ومنكرة) فقد وردت (11) تقريباً، من أمثلتها :
• «تمر الريح ولا تعبأ بمحنته..
تأبطتك عولة الريح ..»
• «أهازيج الرّيح/تضافرَت
• «الرّيح تنفخ في مزامير
البرد..»
• "لماذا أحجمتِ الريح/عن هفهفة غصون الألم.."
• "وأيّ من أصابع الريح القصيرة/تتركك قتامةً مطرقة الخط.."
وتتفاوت رمزية الريح من موضع لآخر، لكنها تجتمع في دلالة الحركة، والفعل العصْفي، التدميري، ورمزياً، تومئ في بعض مواضعها إلى الحركة الروحية، كما في : « تمر الريح ولا تعبأ بمحنته...."
هذا غيض من فيض، وثمة العشرات من الرموز ذي البنية "الطبيعية" في ديوان الشاعر ، لا يتسع الحيز الكتابي (المحدد لي)؛ لتناول الكثير منها في هذه القراءة الخبرية للديوان، أذكر منها : الورد، المطر، الغيوم، الشتاء، النهر، البحر، القمح، المطر، الريح، الشمس...وغيرها ..
° من الرموز الأخرى التي تحتفي بها القصيدة الحديثة بوجه عام، وتعد من لوازمها :
° الرمز (الأدبي- التاريخي- السياسي- الشعبي- الأسطوري- السِّيري- الصوفي- الروحي- التراثي)، وغيرها من الرموز الجزئية منها، أو الكلية :
ولنأخذ من ديوان زيدٍ شاهداً منها؛ للتمثيل به على أحد تلك الرموز المذكورة :
" ..................
أنتَ تُذكّرني بـ(سيّد هارتا)...
وعرفتُ مما تشي به كلماتك
أنّني سأقضي بحثًا
عن الحقيقة
لم يكن الوقت مواتيًا
للقبض كما ينبغي
على تأويل آخر
لنبوءتك
وأنّني سأقترفك
وزرًا أوحدَ
عند نزق المنعطف"
..............
بالرغم من أن الشاعر أومأ بخفاء إلى رمزية "سيد هارتا" ؛ إلا أن الإيماء، لايمكن أن يدركه القارئ العادي، أو حتى المثقف، الذي لم يقرأ، ولم يعرف شيئاً عنه. ففي "سيد هارتا"، نجد رمزاً أدبياً، ظاهره شخصية رواية لكاتبها الألماني " هرمان هسة"، وهي رواية خيالية، يعود زمنها الحدثي إلى ما قبل الميلاد، وتتلخص في رجل كان من المعاصرين لـ (بوذا) نبي الديانة البوذية، لكنه كان رافضاً لتعاليمه وعقيدته، فانكفأ إلى ذاته للبحث عن الحقيقة، واليقين، حتى وصل إليها في ختام رحلته، من خلال المرور بعدد من الاختبارات المؤلمة...
...........
فـ(سيد هارتا) يتحول لدى شاعرنا من شخصية أدبية، في رواية، إلى رمز إيمائي، وإيحائي باطنه "البحث عن الحقيقة".
من الإشراق الجمالي في هذا المقطع أن الشاعر ذكر لفظ " النبوءة" في خطابه الموجه للشخصية الشعرية وهي لازمة دلالية مرتبطة بـ(بـوذا)؛ باعتباره نبي ذاك الزمان، ولكن تأشيريتها، وإيمائيتها تحورت شعرياً، وكأن السيد هارتا هو "بوذا" ذاته.
▦ يقول "كارل يونغ" في مفهوم الرمز ": " الكلمة، أو الصورة تكون رمزاً؛ حيث توحي بشيء أكثر من معناها الواضح المباشر، ولذلك يكون لها جانب مظهري، لاشعوري، يصعب تحديده، أو تفسيره بدقة، وجلاء.." (3) .
....................
▦ من الملاحظات التي يجدر الإشارة، إليها: أن الشاعر كان قد أدرج نصاً عنوانه" نقرات على صدر المدى" في مسودة الديوان قبل طبعه، وكان هذا العنوان هو المحتمل لغلاف الديوان، ولكنه فضّل( بعدئذ) سحب تلك العنونة الجزئية، والاكتفاء بعنوان يمثل تشْكيلُـهُ جِمَاعاً لوحدة الديوان الدلالية؛ بحيث تتآزر العلاقة العضوية للعنوان مع التجربة الشعرية عامة، وهذا التوجه لدى الشاعر يعطي للعمل وهجه، ووحدته، واتساقه: مبنى ومعنى.
ولكن الملاحظ قرائيّاً وجود نص ترد فيه جملة "نقرات على صدر المدى"، وهي أقرب للعنونة الرئيسة، بفارق كلمة(الأبد) مقابل (المدى)، وهذا يُحْدثُ لبساً، كان يجب تلافيه: إما بحذف الجملة كلية واستبدالها بسياق آخر، أو اعتماد نفس العنونة، وتعديل "المدى"، بــ(الأبد)، وبذلك تتحول العنونة إلى "جزء من البنية الكلية للتجربة الشعرية، بوصفه نصًا صغيراً موازياً"..
•••••••••••••••
إحالات :
(1) اللازمنية في الشعر الحديث : تعني دوران، أو ارتكاز النص حول ذاته، بحيث يصبح النص خارج نطاق الزمنية، وهذا واضح تماماً في مجموعة" نقرات على صدر الأبد ."
(2) الشعر بوجه عام يحتفي بالرمز ، حتى على مستوى القصيدة القديمة، ولكن الفرق أن القصيدة الحديثة، جعلت من الرمز في الشعر، هدفاً، وقيمة، واتجاهاً فنيا، وجمالياً، فأوغلت فيه، لدرجة ان تتحول القصيدة(أحياناً) إلى نص رمزي، فتدور جميع الرموز الجزئية في فلك الرمز الكلي للنص الواحد .
(3) المقولة مثبتة في كتاب" الشعر العربي المعاصر: قضاياه، وظواهره الفنية، والمعنوية " للدكتور عز الدين إسماعيل .
Commentaires