top of page
بحث
  • صورة الكاتبBooks عناوين

رواية ((دياسبورا)) وتحوُّلات البيت اليمني والإنسانية


إبراهيم موسى النحاس*

إذا كان الشتات هو "أماكن تواجُد شعوب مهاجرة من أوطانها في مناطق مختلفة من العالم ليصبحوا مُشتَّتين فيها كمجموعات متباعدة، ويتفاعلون فيما بينهم بمختلف الوسائل للتنسيق لمحاولة العودة إلى أوطانهم" -على حد تعبير موسوعة (الويكيبيديا)- ، فقد اختار الروائي اليمني عمرو عبد اللطيف ياسين التسمية اليونانية للشتات أي ((دياسبورا)) لتكون عنوانًا لروايته التي بين أيدينا. وقد جاءت فلسفة العنوان متناسقة مع رؤية الرواية التي قامت على مقارنة وضع البيت اليمني بل العربي قديمًا وحديثًا بصورة رمزية راقية خلت من التقريرية من خلال مقارنة وضع وحال بيت الجد قديمًا وحالته الآن حين يقول في الفصل الأوَّل: ((الدار التي كان يقطن فيها جدِّي ما زالت هي الأهَمُّ في ذاكرته. يخبرني جدِّي أنَّ الناس كانوا يجيئون الى القرية ليؤدُّوا صلاة الجمعة، وهذا كان يُعتبَر سُوقًا جيّدًا للباعة. كان الباعة يجيئون من كل حدب وصوب ليبيعوا سلعهم مقابل نقود أو مقابل الحبوب والتي كانت أيضًا مُتاحة للتعامل. بعد أن يرحل الجميع يتّجه كلُّ الباعة إلى بيت جدِّي ليتركوا ما بقي معهم من سلع و يأخذون مقابلها ما طاب لهُم من الحبوب. لم يكُن أحد يغادر بيت جدِّي إلّا وهو راضٍ و لا يغادر أحد القرية إلّا وهو يشعر بالارتياح حتى الباعة. منزل جدِّي أصبح مهجورًا الآن ويقطن فيه أناس غرباء يبنون ذكرياتهم على أنقاض مَجْد ذلك البيت الشامخ)).

ولا يُهمِل الكاتب معالجة الكثير من قضايانا الاجتماعية داخل الرواية، منها انتشار السلاح خارج سُلطة الدولة، والتعصُّب لدى البعض، وقضية الأخذ بالثأر، وسهولة القتل حتى لو من أقرب الناس – كخوف البطل من أن يقتله خاله لاعتقاد هذا الخال أنَّ السبب في مقتل ابنه هو بطل تلك الرواية-، كما تناقش الرواية أزمة الحرب الأهلية التي تدفع الكثيرين للفرار من آتونها حاملين في داخلهم الرغبة في الحياة مع مرارة التشيؤ والاغتراب والحنين للوطن وما عاشوه فيه من ذكريات.

وفي السياق الاجتماعي تعرَّضت الرواية لبعض القضايا الاجتماعية كعدم إكمال الفتيات لتعليمهن، بل وعدم قدرة بعض الشباب على تكملة تعليمهم بسبب الظروف الاجتماعية، والتعليم القائم على العُنف من خلال مقارنة شخصية وأساليب الأستاذ (خالد) بشخصية وأساليب الأستاذ (جمال)، إضافة لمعالجة قضية العنوسة، وكذلك أثر النشر الإلكتروني على الكتاب الورقي وتوزيعه، لكن تظل قضية نظرة المجتمع الشرقي للغرب أيقونة بارزة في نسيج الرواية تتماس مع أيقونة الصراع من أجْل الحياة، هذا الصراع من أجل الحياة الذي هو بمثابة صراع مع الواقع على حد تعبيره في نهاية الفصل الأول.

وفي هذا الإطار تعرض الرواية للكثير من القضايا الفلسفية ذات الطابع الإنساني، منها أهمية الوطن، وأهمية الإيمان بثقافة الاختلاف وقبول الآخر، وقضية الوجود والسعادة، لتطِل علينا على المستوى الفني صورة (الراوي العليم) الذي يمتلك اليقين المعرفي من خلال خبراته الحياتية، لنشعر بصوت المؤلف من وقت لآخر حتى لو كان كلامه على لسان أحد شخصياته الروائية، كما في قوله في بداية الرواية: ((الجميع يخوضون في تجارب البحث عن الحياة ويبحثون عن ذلك القصور الذي يفتقدونه ولكن ما يتعلق بروحك وملء تلك المساحات الشاسعة في القلب تظل لها الأوَّلية. فليست الحياة فيما يمتلكه المرء بل الحياة في الرِّضا الذي يحتل ذواتنا والطمأنينة والسلام الذي يتخلل أيامنا. (ماكبث) لم يكُن منطقيًّا وخسر كلَّ شيء. صحيح أن (شكسبير) أضفى على نهايته نوعًا من الشجاعة في نهاية المطاف ولكن الجشع في الأشياء غير الأساسية في الحياة ما زال هو القادح في حياة (ماكبث) الذي بدأت حياته تنحدر بعد نبوءة العرَّافة. بنى حياته على كذبة وفقد معها كلَّ شيء حتى الوجاهة، ولم يعُد (ماكبث) ذلك الشهم المِقدام الجدير بالثناء)).

جانب فني آخر تعكسه الرواية وهو ظهور شخصية الكاتب المُثقّف، نلمح هذا في أكثر من موضع في الرواية بدءًا من اختياره لعنوان الرواية، مرورًا بحديثه عن (إليزابيث) بطلة مسرحية (بجماليون)، وأغنية المطربة الفرنسية (لارا فابيان)، وشخصية (إيميلي) لوليَم فوكنر، والحديث عن (تولستوي) وبطلته (آنا كرنينا)، وغيرها من الشواهد التي جاءت في معظمها وصفًا لشخصيات روائية عالمية يصف سلوكها وطبيعتها ويقارن كل هذا بسلوكيات وطبيعة شخصية روائية في الرواية التي نحن بصددها (دياسبورا)، لتعكس لنا الرواية صورة الروائي المثقف الذي يوظِّف بنيته المعرفية بالأدب العالمي داخل روايته.

السينمائي من خلال قطع التدرُّج الزمني للحدث الروائي Cut من السمات الأسلوبية توظيف آلية ال

عن طريق توظيف النوستالجيا والحنين لأماكن الذكريات في الوطن بآليَّة (الفلاش باك) أو استدعاء الأحداث من الذاكرة، كحديثه عن قرية جدَّه ومسجد تلك القرية حين يقول: ((حكاية جدّي مع القرية هي حكاية هويَّة وذاكرة مكان تختلف تفاصيله. عندما يعود إلى القرية وكأنّه يزور مملكة النور ويحظى بضوء (نجمة أرنديل) ليكون أنيسه في الليالي المظلمة كما في رواية (ملك الخواتم)، لأنَّ ذاكرته تتشبَّع حتى يشعر بالرِّضا، فهو لا يعود إلى القرية إلّا بعد أن يتذكّر تفاصيل زمنه الجميل هناك. المسجد الذي يتواجد في قريتنا بناه أجداد جدِّي، وهو المسجد الذي يُصلّي فيه جميع الناس الذين يقطنون القُرى المجاورة. يسافر الناس من قُراهم ويقضون ساعات من المشي حتى يَصِلون إلى هذا المسجد، وهُنا بدأتُ أدرك لماذا هذا المسجد بالذّات يحتلُّ مكانة خاصة في ذاكرة جدِّي. يخبرني الجميع أنهم لا يُصَلُّون الجُمعة إلّا في هذا المسجد، ولا يفطرون في رمضان إلّا بعد أن يصدر الآذان من هذا المسجد المُتربّع على التلّة كشيخ عجوز وأبٍ رُوحيّ يبثُّ الطمأنينة في كلِّ المنطقة)).


من هذه القراءة السريعة يُمكننا أن نقول إن رواية ((دياسبورا)) للروائي عمرو عبد اللطيف ياسين تُمثِّل الرواية الواقعية التي تعالج الكثير من قضايا الواقع اليمني والعربي والإنساني، وتعكس صورة الكاتب المُثقّف والراوي العليم صاحب الخبرة الحياتية والرغبة في خلق الوعي لدى القارئ إيمانًا بالوظيفة الاجتماعية للأدب، إضافة لتوظيف الفلاش باك واستدعاء الأحداث من الذاكرة بما يتناسب مع رؤية الكاتب التي تُعلِي من قيمة الحُب للوطن حتى وإن تحققت الآمال والطموحات خارجه، ولنُبحِر معًا في عالم الرواية لنكتشف المزيد.

شاعر فصحى وناقد أدبي مصري*

١٧ مشاهدة٠ تعليق
bottom of page