top of page
بحث
  • صورة الكاتبBooks عناوين

كتاب ((حنين مُبعثر)) ... بين فن الرسائل واليوميات والرواية



إبراهيم موسى النحَّاس*


إذا كانت الكاتبة البريطانبة فيرجينيا وولف كتبت فن اليوميات الأدبية وهي في الخامسة عشرة، وإذا كان الكاتب التشيكي الكبير فرانز كافكا كتب يومياته على مدار ثلاثة عشر عامًا تقريبًا، وإذا كان العرب كتبوا فن الرسائل وعرفوها على يد مُعلّم البشرية الأول رسولنا الكريم ثم تشعبت إلى رسائل ديوانية وإخوانية ووصفية، فإننا اليوم نتابع كتابًا جديدًا جمع بين فن اليوميات (ككتابة ما بعد حداثية) غزت حتى فن الرواية، وإحياء أحد فنون النثر العربي وهو فن الرسالة، لكن برؤية جديدة ومختلفة، فالكاتب حميد الرقيمي في هذا الكتاب (حنين مبعثر) يجعل من الرسائل إلى الأم لوحات تشكيلية أدبية تمزج على المستوى الفني بين فن الرسالة وفن اليوميات الأدبية، كما تمزج على مستوى الرؤية بين هموم وقضايا الذات إضافة لهموم الوطن، هموم اليمن السعيد والذي سيعود ويبقى سعيدًا بوعي شعبه صاحب الحضارة الممتدة في عمق وجذور التاريخ.

فعلى مستوى الرؤية يُسجِّل الكاتب قَدَر شباب اليمن حين يقول في الرسالة التي حملت عنوان (إليكِ فقط): ((تعرفين جيّدًا مَن أنا، حميد الطفل المشاغب الذي أتعبك منذ لحظة خروجه إلى الحياة وحتى الآن، هل تغيَّرتُ بعد كل هذه التجارب؟، بعد كل هذه المراحل التي تجاوزتُها وحدي وكنت فيها أحارب على الجهات الأربعة كي لا أسقط؟ لا إجابات واضحة لكل هذه التساؤلات، ولكنني لا أزال أقاوم، أسير على أمواج من السواد والأشلاء والذكريات الجميلة.. هذا هو قدرنا يا عزيزتي، قدري وهذا الجيل الذي كُتبَت عليه مواجهة الموت بالموت، على جبال المعارك المشتعلة وفي ضياع الصحارى الواسعة، على ضفاف البحار التي تلتهم الغرباء دون رحمة، وهذه المنافي التي لا تطيق خطواتنا عليها. هذا هو اليمني يا عزيزتي، هارب من الموت إلى الموت)).

ويؤكد أن الشباب اليمني ليس هو المسؤول عن تردِّي الأوضاع الحالية فيقول في الرسالة التي حملت عنوان (ملامح وطن): ((وأنا ومعي كل اليمنيين نقف على جمرات هويتنا ونقبض عليها بأيادٍ مرتعشة. لم نكن السبب يا عزيزتي، لم نخلق هذا كله بإراداتنا، لقد وقعنا في فخ الحرب، ذلك الفخ الذي نصبته أيادٍ خبيثة لا تدرك قيمة الأوطان، ولكن هذا ما حدث، من منفى إلى منفى نحمل نعش حياتنا على أبواب تخاف قدومنا ونخاف رفضها)).

كما يربط بين الصراع في اليمن والواقع العالمي فيتناول تأثير أزمة كورونا على الموقف العالمي من الصراع داخل اليمن في رسالة (كعك العيد) ويؤكد أن هذه الرسائل هي مواساة وسبيل لمواجهة الذات لمرارة الواقع وقتامته، فيقول في الرسالة التي حملت عنوان (نُدوب ونصف حياة): ((أكتب لكِ هذا السواد كله، هروبًا وبحثًا عن المواساة، أبحثُ عن الضمير الذي يتسرَّبُ يومًا بعد آخر من تقاسيم أرواحنا، وهذا ما لا يمكن أن أساوم به أو أتخلى عنه)). لهذا من الطبيعي أن يتمسك الكاتب بالأمل لأن الأزمات سبب من أسباب قوة الذات، فيقول في رسالة (طفلكِ الكبير): ((أعرفكِ تشتاقين بصمت، تعذبك هذه القرون المليئة بالدماء، والسنوات التي تسرَّب منها طفلك الضعيف والتائه، لكنني بفعل هذا كله صرت أقوى، صارت لديَّ المناعة التي لا يمكن هزيمتها أو كسرها إلّا حين تكونين أنتِ فيها نقطة ضعفي ومصدر هزائمي وانتصاراتي معًا)).

وإذا انتقلنا إلى الجانب الفني نجد أنفسنا أمام الكاتب المثقف الذي تظهر آثار ثقافته على كتابته، ففي رسالة (رائحة خوف) نجد حديثه عن ((أم كلثوم ومحفوظ وبيرم التونسي، إلى مقاهي العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وترانيم السنباطي)) والإشارة إلى رسائل (غسَّان كنفاني) إلى (صفيَّة) إضافة لأثر الأدب الروسي على مرحلة تكوينه الثقافي في رسائل أخرى.

والقارئ للكتاب بعناية يجد نفسه أمام كاتب يجيد كتابة فن الرواية، حيث نلمس الدقة في وصف المكان بأدق تفاصيله كما في وصفه لمدينة القاهرة في رسالة (منفًى آخر) حين يقول: ((هذه المدينة يا عزيزتي لا تنام، لا يغفو لها جانب دون أن يخرج من سكونه الجانب الآخر، تعيش تناغمًا مُستمِرًّا، ولا شيء قادرٌ على إخماد حياتها المتدلية من سماء الله المُرصَّعة بالتاريخ الكبير، والمليئة بالحضارات الحقيقية. ينشغل الكل في خدمة الكل، يسابقون بعضهم على البقاء في هذا القيد المتواصل، كل شيء يسير في اتجاهه دون توقف، شوارع صاخبة، أزقّة مزدحمة، أحياء مليئة بالمباني الطويلة المتعانقة، جسور تطل على بعضها برقصات المارة وأغانيهم، مقاهٍ تفوح منها رائحة التبغ والقهوة والسِّت أم كلثوم، يتدفق النيل بين هذا كُلّه بألوان صُنعت من جمال الإنسان وصارت على كل ناصية تُشكّل اللوحات المدهشة. بلادٌ عجيبة يا أمّي، تحمل في صدرها كلَّ الحياة دون استثناء، كل الطقوس دون تمييز، مساجدُ قديمةٌ تملؤها مباخر السلاطين والأمراء، ومثلها كنائسُ فارعةٌ بالصليب الممشوق، ولا أحد يصرخ بخبث، لا أحد ينادي بالحق الربَّاني، لا أحد يحمل سلاحًا وعلى ملامحه يتجسَّد الخبث المتراكم بخبثٍ أشد)). إضافة لقصص قصيرة مكتملة العناصر وتقوم على عنصر الحكاية كما في الرسالة التي حملت عنوان(صديقي أيلول).

سمة أسلوبية أخرى تمثلت في توظيف السؤال الذي يثير ذهن القارئ ويعكس قلق الذات، كما نجد توظيف التكرار للتأكيد على فكرة الكاتب ورؤيته، كم في تكرار كلمة (لنا) في رسالة (رائحة خوف) حين يقول: ((وماذا لنا من هذا كُلّه؟، لنا الضياع والشرود، لنا السواد القاتم والظلام المستبد، لنا حلكة المنافي واختناقها المميت، لنا شفقة العابرين وتذمُّر الساخطين، لنا هذا القدر المثقل بكل الخيبات، ودون وطن يمنحنا قبرًا هادئًا على أقل تقدير.)).

لتتحول الرسائل/ اللوحات إلى دفقة شعورية مفعمة بأكبر كم من المشاعر الإنسانية والوطنية تجاه الأم بمعناها الخاص لدى المؤلف، وأيضًا الأم بالمعنى الرمزي العام أي الوطن... ولنُبحر معًا في عالم الكتاب لنكتشف المزيد.


*شاعر فصحى وناقد أدبي مصري






١١٥ مشاهدة٠ تعليق
bottom of page