top of page
بحث
  • صورة الكاتبBooks عناوين

"من وحي الشتات": أحاديث المنافي، والبحث عن الهُوية، والانتماء


عناوين بوكس

قراءة || هشام شمسان


▦ عندما يجتاح الشتات حياة الإنسان، يتحول كل شيء حوله إلى مزيج من الألم والحنين والشوق؛ فيصبح الوطن مسافة، بعيدة والأرض التي يقف عليها غريبة. في ذلك الوقت، تصبح الكتابة رفيقًا حقيقيًا، يساعدنا على تجاوز الألم والوحدة، ويسمح لنا بالتواصل مع العواطف، والمشاعر التي تعترينا في تلك اللحظات الصعبة.

إنها خلاصة الفكرة التي يأخذنا إليها عبد اللطيف حيدر، من خلال كتابه ( من وحي الشتات)،الذي يقلنا فيه إلى رحلة استكشافية للإنسانية في زمن الصراعات، وتشتت الاتجاهات. رحلة مليئة بالمواقف، والتجارب الشخصية، وتستمد أحداثها من واقع الشتات، ومعاناة الاغتراب، والهجرة التي صنعتها ظروف الحرب، والتحولات السياسية، والاقتصادية التي يمر بها الفرد، والمجتمع، والشعب اليمني في راهنه الحاضر .


▦ الكتاب ليس مجرد سرد مقالي لتجارب، ومواقف، ومغامرات شخصية، بل هو رحلة عميقة داخل تفاصيل حياتية، ومهنية، تعكس الحقائق المريرة للحروب، والمنافي؛ إذٔ ينقل لنا الكاتب تجاربه بأسلوب مؤثر ومعبر، هو أقرب إلى الأدب منه، إلى الكتابة الصحفية.

كتاب يجذبك بسردياته، التي يتناولها بأسلوب يلامس القلوب. يشاركنا فيها المؤلف تجاربه المؤثرة في المنفى، ورحلة الاغتراب، والفراق العائلي، من خلال مقالات- تتميز بالعمق والصدق، والقدرة على تشكيل الواقع- تتأمل في تأثيرات الحرب، والتغيرات السياسية على النفس البشرية، وتنقل لنا خيوطا دقيقة لمعاني الحنين، والشوق، والحب، والبحث عن الهوية؛ فتعكس الواقع المرير للحياة، بعيدًا عن الوطن، والأسرة ، والعائلة، والمجتمع.

وفي الوقت نفسه تمنحنا تلك القراءات قبساً من الأمل، والإصرار، للتأقلم مع الصعاب، وتكييفها لصالح التفاؤل، وهزيمة الواقع الكئيب.


▦ وأنت تقرأ " وحي الشتات" للكاتب- المقيم في الدوحة- عبد اللطيف حيدر، ستشعر وكأنك تسير في درب المؤلف، تشاهد- عن كثب- تفاصيل المشاهد التي يكتبها، وتعيش معه كل لحظة من لحظات الانتقال، والتكيف، والتأقلم، وتخوض معه تلك التحديات، وتعيش معه تلك الأزمنة المتقلبة، وستجد تجاربك الخاصة تنعكس في كل سطر، من سطور ما تقرأ.

فالكتاب ليس مجرد مجموعة من المقالات، والتدوينات، بل هو- في كثير من نوافذه- يكاد يطل على "أدب المنافي، الذي يستكشف الصراعات النفسية التي تستولي على الأفراد المضطهدين، أو الفارين من الحروب، والصراعات، أو تلك التحديات التي يواجهها الأشخاص في منافيهم، ويُظهر معاناة الألم والحنين، والضياع، والبحث عن الهُوية، والانتماء.

ليس ذلك فحسب، بل يطرح أسئلة وجودية، وتأملات فلسفية، تلقي الضوء على مغزى وجودنا في الأرض، والغاية من الحياة، والخلق ، ويعزز لدى القارئ مفاهيم الانتماء إلى الخالق (سبحانه) قبل مفاهيم الانتماء إلى الأرض، والأسرة، والعائلة، والمجتمع.

يتمايل الكتاب بين الألم، والأمل، وبين الحنين والتعويض، وهو ما يخلق توازنًا مدهشًا بين الواقعية والتعبير الفني للكتابة .


من أجواء الكتاب:

"كانت مشاعر الأبوة من أدفأ المشاعر التي تداعب خيالي، حين غادرت البلاد مجبرًا و"أضوى"، ابنتي الأولى ماتزال جنينًا في شهرها الخامس، على أمل أن يأتي موعد ولادتها وقد أذن الله بالتئام روحينا، أو التئام روحي أنا.

فالبعاد لم يكن سوى روح ممزقة بين أصل القطعة، وأشلائها الصغيرة، لكن للأقدار حكمها، فجاءت الصغيرة في غيابي، وكان ذاك يوم جرحي.

لقد عانقت تلك المخلوقة الحياة بعيدًا عن والدها المنفي خلف البحار، وعرفته خيالًا عبر الشاشات حتى أشرق ربيعها الرابع.. لكن دمه كان يسري في عروقها منذ الخفقة الأولى، وكانت روحه تتدفق إلى ذاتها الصغيرة كهدير ينابيع الشواهق.. لقد أسميتها "أضوى" (*) اشتقاقًا من مصدر الضوء؛ أملاً في أن تكون البقعة المضيئة التي تنير عتمة الأيام، وتكسر حلقات الظلام وقتامتها. وآهٍ من جرح يمزّق شعورًا بريئاً في عزّ نشوته"...

يعكس هذا المقطع بشكل مؤثر، تجربة الكاتب في المنفى، وتأثيرها على علاقته بأطفاله، ويبرز التناقضات العاطفية التي يعيشها الكاتب، والأحاسيس المتضاربة بين الأمل، والألم، وبين الرغبة في التئام العائلة والحنين للأوقات التي يفتقدها الكاتب، بسبب المنفى، ويعبر عن الانقسام الذي يعيشه الكاتب بين واجبه تجاه الأسرة، والظروف التي تجبره على البقاء بعيدًا عنهم..

............

● الكتاب صدر حديثاً عن دار" عناوين بوك، القاهرة، ويقع في ( 92) صفحة، من القطع المتوسط، طبعة أولى، 2023 ، ويعد هذا الكتاب أول مؤلف للكاتب، والصحفي اليمني المقيم في الدوحة، عبد اللطيف حيدر .

-------------------------------

هامش :

(*) أود التأكيد على أن اسم (أضوى) ليس من اشتقاقات "الضوء"، كما يقول الكاتب، فـ(أضوى) من الفعل (ضوىٰ، يضوي، ضاوٍ ) أو ( أضوىٰ يضوي إضواءً)، وكلها من معاني الهزال، والمرض، والضعف، ولاتمت بصلة إلى الضوء، الذي منه (أضواء، وضياء، وإضاءة، ووضيئة).

تقول العرب :" أضوىٰ المرض فلاناً"، أي أضعفه، وأهزله. ويقال :" فلان أضوىٰ من فلان" أي أكثر هزالا وضعفاً منه.. وقال الشاعر:" إذا الليل أضواني..." أي أضعفني، وأمرضني.

٤٥ مشاهدة٠ تعليق
bottom of page